لاشك أنه كان من المؤكد والمتوقع أن تتأثر الأمة بفقدان الشيخ العلامة عبد الله بن جبرين تأثراً ربما يكون أشد حينما فقدت الأمة الشيخين ابن باز وابن عثيمين؛ لأننا قلنا آنذاك: الحمد لله، البركة في أمثال الشيخ ابن جبرين، والآن بعد أن مات بقية السلف الذي امتاز بوهبه نفسه للعلم والتعليم والدعوة، ومع كبر سنه إلاّ أننا نلحظ السعة والمرونة مع متانة وسلفية علمه وعطائه.. كان الأثر كبيراً علينا معاشر الأمة، ووالله إن ديار الغربة مع جمالها وبرودة جوها أصبحت سوداء كالحة حينما وصلنا نبأ وفاته -رحمه الله- وبدأت سلاسل الرسائل التى يعزي بها بعضنا بعضاً، ومع كل رسالة دمعة ألم وحزن؛ حيث فقدت الأمة منارة من منائر العلم والثقة والطمأنينة والقدوة، ولكنْ عزاؤنا أن نتذكر أننا فقدنا قبل أكثر من ألف و أربعمائة خاتم الرسل والأنبياء الذي أمرنا أن نتعزى به، وأن الله كان تعهد بحفظ كتابه، ونبيه أخبر بأن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدّد لها أمر دينها، وكذلك الأمة ولود، كما قال أحد المشايخ الفضلاء على العميري -حفظه الله- حينما توفي الشيخ عبد الله بن حميد، وكنت آنذاك صغيراً في المرحلة الثانوية، وكان مما حفظت ورأيته واقعاً عملياً في ذلكم المجلس الممتلئ ببعض المشايخ ممن حزنوا على فقدان الشيخ آنذاك قال الشيخ علي -حفظه الله-: الأمة بخير وولود، ثم تكلم عن الشيخ ابن باز، ثم مرت سنين الشيخ ابن باز التي أعادت للناس سني شيخه، بل كان أفضل من ناحية منهجه الذي كسب به، وجمع قلوب الجميع حكاماً وعلماء وطلبة علم وعامة، فنسأل الله أن يعوض الأمة خيراً، وأن يرحم الله الشيخ رحمة واسعة إنه أرحم الراحمين.
قناة المجد الفتية قامت بأداء الواجب في نقل شعيرتي صلاة الظهر والجنازة من جامع الإمام تركي بن عبد الله.. تكوّمت أنا وأهلي وأولادي أمام القناة نتابع الصلاة، ودموعنا تتقاطر، كل منا يخفي دمعاته عن الآخر.. هالنا تلكم الجموع التي جاءت من كل حدب، أما تحركهم، وكل يمسح دموعه ليودع الشيخ إلى مثواه الأخير فقد ذكرني ذلك بالمقولة الشهيرة موعدكم يوم الجنائز. نعم مات الشيخ بعد سبعين سنة امتلأت صفحاتها في خدمة العلم والمعرفة، ولكن بقي ميراثه وعلمه وهديه والمخفي من عمله وإنتاجه الذي سوف يربي الأمة على الاقتداء به، أما أحبابه وطلابه فسوف يسردون قصصه وأحاديثه معهم، وسوف يعنون بإبراز علمه وتحقيق كتبه، أما الأمة فلها نصيب، وعليها واجب نشر وسماع علمه، وهنا تظهر حياة العالم الثانية، كما قال إبراهيم عليه السلام (وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ).
من أبرز الميزات والخصائص التي اختص بها الشيخ قوله الحق الذي يعتقده ولو خالفه الكثيرون، حتى لو كانوا طلابه والمحيطين به؛ فهو عالم يملك قوله، ولا يتأثر بضغوطات خارج عقله وقلبه، يذكرنا بشيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم. العالم خلال حياته يكون مشغولاً بالعلم والإفتاء والدعوة والإصلاح وأقواله تتجدد، وربما تتغير خاصة العلماء المشتغلين بالتعليم والتفاف طلبة العلم حولهم وتسمح قلوبهم لسماع آراء طلابهم، بل يفرحون وبعد عمر طويل يموت العالم، ويشعر بل يأسف الناس لفقده، وهنا تبدأ حملات البحث والتنقيب عن إنتاج ومشاريع الشيخ ليتم عرضها والاستفادة منها، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما عند مسلم: "اذا مات العبد انقطع عمله إلاّ من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم يُنتفع به".. وكل هذه الثلاث لا تجتمع إلاّ للعالم.
أسأل الله أن يغفر للشيخ وأن يسكنه فسيح جناته.. آمين